الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فوائد لغوية وإعرابية: قال مجد الدين الفيروزابادي:بصيرة في التذكر والتفكر:التَّذكُر: تَفعُّل من الذِّكر.والذِكر: هيئة للنَّفْس، بها يمكن للإِنسان أَن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة.والفكرة: قوّة مُطَرِّقة للعلم إِلى المعلوم.والتفكُّر غيره؛ فإِنذَ تلك القوّة بحسب نظر العقل، وذلك للإِنسان دون الحيوان.ولا يقال إِلاَّ فيما يمكن أَن يَحصل له صورة في القلب.ولهذا رُوِىَ «تَفَكّروا في آلاءِ الله، ولا تفكّروا في ذاتِ اللهِ» إِذ كان الله منزَّهًا أَن يوصَف بصورة.قال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ} {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.ثمّ اعلم أَنَّ التذكُّر قرين الإِنابة.قال تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}.والتَّذكُّر والتفكُّر مَنْزلان يُثْمران أَنواع المعارف، وحقائق الإِيمان والإِحسان.فالعارف لا يزال يَعُود تفكُّره على تذكُّره، وتذكُّره على تفكُّره، حتى يُفتح قُفْل قلبه بإِذن الفتَّاح العليم.قال الحسن البصرىّ: ما زال أَهل العلم يعودون بالتذكر على التفكُّر، بالتَّفكُّر على التَّذكُّر، ويناطقون القلوب حتى نطقت.قال الشيخ أَبو عبد الله الأَنصارىّ: والتَّذكُّر فوق التَّفكُّر؛ لأن التفكُّر طلبٌ، والتَّذكُّر وجودٌ.يعنى أَنَّ التماسُ الغايات من مبادئها.وقوله: التذكُّر وجوده لأَنه يكون فيما قد حصل بالتَّفكُّر، ثمّ غاب عنه بالنِّسيان، فإِذا تذكَّره وجده، وظفِر به.واختير له بناءُ التفعّل؛ لحصوله بعد مُهْلة وتدريج؛ كالتبصّر، والتفهُّم.فمنزلة التذكُّر من التفكُّر منزلةُ حصولِ الشئِ المطلوب بعد التفتيش عليه.ولهذا كانت آيات الله المتلوّة والمشهودةُ ذكرى؛ كما قال في المتلوّة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} وقال في القرآن: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} وقال في الآية المشهودة: {أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} فالتَّبصرة آية البصر، والتَّذكرة آية القلب.وفرقٌ بينهما.وجُعِلا لأَهل الإِنابة؛ لأَنه إِذا أَناب إِلى الله أَبصر مواقع الآيات والعِبَر، فاستدلَّ بها على ما هي آيات له، فزال عنه الاعتراضُ بالإِنابة، والعمى بالتبصرة، والغفلةُ بالتَّذكر؛ لأَنَّ التبصّرة توجب له حصول صورة المدلول في القلب، بعد غفلته عنها.فترتَّبت المنازل الثلاثة أَحسن ترتيب.ثمّ إِنَّ كلاَّ منها يمدّ صاحبها، ويقوّيه، ويثمره.وقال تعالى في آياته المشهودة: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.والنَّاس ثلاثة: رجل قلبه مَيّت، فذلك الذي لا قلب له: فهذا ليست هذه الآية تذكرة في حقِّه.ورجل حَىّ مستَعِدّ، لكنَّه غير مستمِع للآيات المتلوّة، التي تُجزئه عن الآيات المشهودة: إِمّا لعدم ورودها، أَو لوصولها إِليه، ولكن قلبه مشغول عنها بغيره.فهو غائب القلب، ليس حاضرا.فهذا أَيضًا لا يحصل له الذكرى، مع استعداده، ووجود قلبه.والثالث رجل حَىّ القلب، مستعدّ، تليت عليه الآيات، فأَصْغَى بسمعه، وأَلقى السّمع، وأَحضر قلبه، ولم يَشغله بغيره، فهم ما يسمعه، فهو شاهد القلب، مُلْقٍ للسمع.فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات الملتوّة والمشهودة.فالأَوّل بمنزلة الأَعمى الذي لا يبصر.والثانى بمنزلة الطَّامح بصرُه إِلى غير جهة المنظور إِليه.والثالث بمنزلة المبُصر الذي فتح بصره الطامح لرؤية المقصود، وأَتبعه بصره، وقلبه، على توسُّط من البعد والقرب.فهذا هو الذي يراه.فإِن قيل: فما موقع {أَو} من قوله تعالى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} قيل: فيها سرّ لطيف.ولسنا نقول: إِنَّها بمعنى الواو كما يقول ظاهريّة النحاة.فاعلم أَنَّ الرّجل قد يكون له قلب وقَّاد، مُلِئَ باستخراج العِبَر، واستنباط الحِكَم.فهذا قلبه يُوقعه على التَّذكُّر، والاعتبار.فإِذا سمع الآيات كانت له نورًا على نور.وهؤلاءِ أَكملُ خَلْق الله تعالى، وأَعظمهم إِيمانًا، وبصيرة؛ حتى كأَنَّ الذي أَخبرهم به الرّسولُ قد كان مشاهَدًا لهم، لكن لم يشعروا بتفاصيله، وأَنواعه.حتى قيل: إِنَّ الصّدِّيق رضى الله عنه كان حاله مع النبىّ صلى الله عليه وسلم كحال رجلين دخلا دارًا.فرأَى أَحدهما تفاصيل ما فيها، وجزئيّاتها، والآخر وقع بصرُه على ما في الدّار، ولم ير تفاصيله ولا جزئيّاته؛ لكنه علم أَنَّ فيها أُمورًا عظيمة، لم يدرِك بصرُه تفاصيلها، ثم خرجا، فسأَله عمّا رأَى في الدّار، فجعل كلَّما أَخبره بشئٍ صدّقه، لِمَا عنده من شواهده.وهذه أَعلى درجات الصّدّيقيّة.ولا يستبعد أَن يَمُنّ الله تعالى على عبد بمثل هذا الإِيمان؛ لأَنَّ فضل الله لا يدخل تحت حَصْر ولا حسبان.فصاحب هذا القلب إِذا سمع الآيات.وفى قلبه نور من البصيرة ازداد بها نورًا إِلى نوره.فإِن لم يكن للعبد مثلُ هذا القلب فأَلقى السّمع، وشهد قلبُه، ولم يغِبْ، حصل له التَّذكُّر أَيضًا {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} والوابل والطَّلّ في جميع الأَعمال، وآثارها، وموجباتها.وأَهل الحبّ سابقون ومقرّبون، وأَصحاب يمين، وبينهما من درجات التفصيل ما بينهما، والله أَعلم. اهـ..تفسير الآيات (56- 59): قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)}..مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما كان الأمر بشغل هذين الوقتين أمرًا بشغل غيرهما من باب الأولى، لأن أول النهار وقت الاشتغال بالأعمال والاهتمام بالابتداء والتمام، وآخره وقت التهيؤ للراحة والمقيل بالأكل والشرب وما يتبعهما، وكان ذلك موجبًا للاشتغال عن أعداء الدين رأسًا، وكان ذلك أمرًا على النفوس شاقًا علله بما يقتضي المداومة على الأعمال والإعراض عنهم لأن خذلانهم أمر قد فرغ منه فقال معللًا للمداومة على الطاعة: {إن الذين يجادلون} أي يناصبون بالعداوة لنقل أهل هذا الدين عنه إلى ما هم عليه من الباطل، ولفت القول إلى الجلالة الدالة على نهاية العظمة تهوينًا لشأنهم فقال: {في آيات الله} أي الملك الأعظم الدالة على تمام قدرته اللازم منه قدرته على البعث الذي في تذكره صلاح الدين والدنيا {بغير سلطان} أي أمر مسلط ودليل مسلك {أتاهم إن} أي ما {في صدورهم} بصدودهم عن سواء السبيل، وآذن ذكر الصدور دون القلوب لعظم الكبر جدًّا بأنه قد ملأ القلوب وفاض منها حتى شغل الصدور التي هي مساكنها {إلا كبر} أي عن اتباع الحق مع إشراق ضيائه واعتلاء لألائه إرادة إطفائه أو إخفائه، والكبر إرادة التقدم والتعظم والرئاسة، وأن يكون مريد ذلك فوق كل أحد {ما هم ببالغيه} أي ببالغي مقتضاه من إبطال الدين تكبرًا عن أن يكونوا تحت أوامره، لا يبلغون ذلك بوجه من الوجوه، ولابد أن يظهر الدين بنصر الرسول ومن تبعه من المؤمنين على أهل الكتاب والمشركين وغيرهم من أنواع الكافرين، ثم يبعثون فيكون أعداؤهم أسفل سافلين صغرة داخرين.ولما ظهر من أول هذا الكلام وآخره تصريحًا وتلويحًا بما أفاده أسلوب كلام القادرين المصوغ لأعم من يمكن أن يخطر في البال أنه تعالى وصف نفسه في مطلع السورة بأنه غالب لكل شيء ولا يغلبه شيء وأن الذي بهم إنما هو إرادة أن يكونوا عالين غالبين، عنه قوله تعالى: {فاستعذ} أي اطلب العوذ {بالله} المحيط بكل شيء من شر كبرهم كما عاذ به موسى عليه السلام لينجز لك ما وعدك كما أنجز له، ثم علل ذلك بقوله: {إنه} أي على ما له من البطون {هو} أي وحده {السميع} لكل ما يمكن أن يسمع.ولما كان السياق للعياذ من شياطين الإنس الذين لهم المكر الظاهر والباطن، ختم بقوله: {البصير} الصالح للبصر والبصيرة فيعم المحسوس والمعلوم، وختم آيتي الأعراف وفصلت المسبوقتين لنزغ الشيطان الذي هو وساوس وخطرات باطنة بالعليم.ولما كان أعظم النظر في آية المجادلة المكررة من أول السورة إلى هنا إلى البعث وصيرورة العباد إلى الله بالحشر ليقع فيه الحكم الفصل، وتتحقق نصرة الأنبياء وأتباعهم يوم يقوم الأشهاد، دل على قدرته عليه بما هو كالتعليل لما نفى في آية المجادلة من بلوغهم لما قصدوا من الكبر، فقال مؤكدًا تنزيلًا للمقر العالم منزلة الجاهل المعاند لمخالفة فعله لاعتقاده: {لخلق السماوات} أي خلق الله لها على عظمها وارتفاعها وكثرة منافعها واتساعها {والأرض} على ما ترون من عجائبها وكثرة متاعها {أكبر} عند كل من يعقل من الخلق في الخلق {من خلق الناس} أي خلق الله لهم لأنهم شعبة يسيرة من خلقهما، فعلم قطعًا أن الذي قدر على ابتدائه على عظمه قادر على إعادة الناس على حقارتهم {ولكن أكثر الناس} وهم الذين ينكرون البعث وغيره مما يمكن أن تتعلق به القدرة وصح به السمع {لا يعلمون} أي لا علم لهم أصلًا، بل هم كالبهائم لغلبة الغفلة عليهم واتباعهم أهواءهم، فهم لا يستدلون بذلك على القدرة على البعث كما أن البهائم ترى الظاهر فلا تدرك به الباطن، بل هم أنزل رتبة من البهائم، لأن هذا النحو من العلم في غاية الظهور فهو كالمحسوس، فمن توقف فيه كان جمادًا.ولما ثبت بهذا القياس الذي لا خفاء به لا دافع له ولا مطعن فيه أن القادر على خلق الكبير ابتداء قادر على تسوية الصغير إعادة، وثبت به أيضًا أن خلق الناس ليس مستندًا إلى طبائع السماوات والأرض وإلا لتساووا في العلم والجهل، والقدر والهيئة والشكل، لأن اقتضاء الطبائع لذلك على حد سواء لا تفاوت فيه، وهي لا اختيار لها، وكان من الناس من يقول: إن هذا الإيجاد إنما هو للطبائع، ومن هؤلاء فرعون الذي مضى في هذه السورة كثير من كشف عواره وإظهار عاره، دل على إبطاله بأن ذلك قول يلزمه التساوي فيما نشأ عن ذي الطبع لأن لا اختيار له ونحن نشاهد الأشياء مختلفة، فدل ذلك قطعًا على أنها غير مستندة إلى طبيعة بل إلى فاعل مختار، فكان التقدير بما أرشد إليه سياق الآية قطعًا مع ختمها بنفي العلم وعطف ما بعدها على غير مذكور: وأقلهم يعلمون، فثبت أن خالقهم الذي فاوت بينهم قادر مختار لا شريك له، فإنه ما يستوي العالم والجاهل: {وما يستوي} أي بوجه من الوجوه من حيث البصر {الأعمى والبصير} وذلك موجب للعلم بأن استناد المتخالفين ليس إلى الطبيعة، بل إلى فاعل مختار.
|